على الأقل، أنا أتصدر الترند”، هكذا علّق توني كروس على تفاعل الجميع مع قراره بالاعتزال، ليؤكد بتغريدة هادئة أن العواصف لا يسبقها الضجيج دوما، وإلا لما اهتز عالم كرة القدم بصدمة كبيرة على صوت فراق حزين لواحد من أفضل من لمس “المستديرة” وصنع متعتها في السنوات الأخيرة، وبخطى ثابتة نحو اللقب الخامس عشر للنادي الملكي في دوري الأبطال، اختار توني كروس نجم وسط ريال مدريد كتابة آخر سطرين وطي الورقة الأخيرة من قصة “سحر المستديرة”، في واحد من أصعب القرارات التي يتخذها لاعب كرة القدم وهو التوقف عن ممارسة الرياضة التي شغفته حبا، ولا يزال له فيها ما يمكن تلميعه وإضاءته. ولعل هذا ما جعل الألماني يتخذ قرار الاعتزال في موسم عرف فيه “الميرنغي” سطوع نجمه كعادته؛ سواء في دوري أبطال أوروبا أو على مستوى “الليغا”، ومن دون شك، كان للبطل الصامت فيه اجتهاد ونصيب
قبل تسعة أشهر من إعلان الوحدة الألمانية، أنجبت الضفة الشرقية قدما ستصنع مجدا وعزا لصاحبها وستساهم باقتدار في مجد وعز بافاريا، مدريد و”المانشافت”، في غرايفسفالد وفي قلب التحولات السياسية ببلده، وُلد الأمير “توني” بجرعة كافية من الحضن الأبوي، لم يكن هرمون “الأوكسيتوسين” كافيا، ففتح الوالد والمدرب يديه لاحتضانه في نادي مسقط رأسه معلنا ولادته السريعة “ُكرويا”، ليثبت الابن جدارته ويُعزز مقولة “Like father like son”.
تبنى كروس فلسفة حياة خاصة للعيش بأفضلية عن أقرانه، كان يؤمن بأن “العمل حين يتكلم الآخرون” هو فرصة النجاح وأخذ الأسبقية، فوضع قدميه مرة أخرى على كرة نادي “هانزا روستوك”، ثم امتثل بداية من صيف 2006 لقانون الكرة البافارية في نادي بايرن ميونيخ للشباب، وهي البوابة التي انطلق منها كروس لينثر سحره على مدينة ميونيخ ثم كل أزقة ألمانيا بتقمص ألوان “المانشافت” شهر مارس 2010 ويبصم على مسيرة تاريخية تزينت بكأس العالم من أرض “السامبا” عام 2014 ولا ينقصها سوى تتويج أوروبي قبل الاعتزال على الأراضي التي انطلق منها يوما كفتى حالم بالمجد.
نهاية مسيرته على الأراضي الألمانية بمناسبة “اليورو” كما أعلن، ستكون مشهد ختام تاريخي، يُكمل من خلاله كروس مراحل العظمة الكروية التي بدأها فعليا سنة 2007 بتواجده لأول مرة في “البوندسليغا”، قبل أن يُخاطر بالمغادرة إلى باير ليفركوزن الذي كان محظوظا بضم الجوهرة الهادئة على سبيل الإعارة لمدة 18 شهرا سجل فيها 10 أهداف وقدم 11 تمريرة حاسمة خلاص 43 مواجهة في الدوري الألماني، وتحت شعار “ميا سان ميا”، أو هكذا نحن.. عاد كروس إلى بيته “أليانز أرينا”، فأضاء سماء بافاريا بالنجوم وتوج بـ 3 ألقاب في الدوري، 3 كؤوس ألمانية، لقب في دوري الأبطال، لقب في كأس العالم للأندية، لقب في السوبر الأوروبي وآخر في السوبر الألماني
في صيف 2014، وبعد صراع كبير مع مانشستر يونايتد، ظفر ريال مدريد بنجم الوسط الألماني الذي جمع في شبه الجزيرة الآيبيرية بين عراقة التاريخ وحيوية الحاضر وصنع حقبة تاريخية عُنونت بأكثر من عنوان، أ هي حقبة مودريتش، كروس وكاسيميرو، أم حقبة “أنا توني، أنا صاحب الملعب؟”، وبعد سنوات من النجاح حقق خلالها 22 لقبا منها أربعة ألقاب في دوري الأبطال، قرر كروس “تعليق حذائه الأبيض” في قمة المجد الكروي، ليؤكد للجميع أنها ليس مجرد نهاية عقد في ناد، ليست نهاية سطر أو نهاية الفصل، بل هي نهاية القصة التي كتب سطورها طيلة عشر سنوات ولا يُمكن حتما اختصارها في وصف انسيابيته ورشاقته على أرض الملعب، أو عقلانيته في التمرير أو دقته في صناعة الأهداف.. اليوم يرحل كروس تاركا وراءه صورا ستبقى دائما في ذاكرة التاريخ، والممضي أسفلها “صاحب الحذاء الأبيض”.